1-
إنني أكتب إلى اللجنة للتعبير عن حيرتي حيال تجاهل الحكومة البريطانية
لخطر الفراغ السياسي الناجم عن السقوط المفاجئ لطاغوت ليبيا الأسبق.
فمن وجهة نظري أن سوء إدارة الوضع في ليبيا كان واضحا منذ الأيام
الأولى للثورة الليبية سنة 2011.
إن دعم الحكومة البريطانية المبكر لانتفاضة الشعب الليبي، إلى جانب
العلاقة التاريخية الطيبة بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية، أدى
إلى وضع بريطانيا العظمى في موقع فريد للتأثير الإيجابي على خيارات
المجلس الوطني الانتقالي الذي شُكل حديثا والذي كانت عناصره تفتقد إلى
الخبرة. وقد كانت هناك فرصة لتحقيق بداية جديدة إيجابية نحو مستقبل
ديمقراطي مستقر بعد عقود طويلة ومظلمة من حكم القذافي المستبدّ. ومن
وجهة نظرنا المعلنة لم يكن ذلك ليتحقق إلا باستباق ذلك الفراغ السياسي
عن طريق التفعيل الفوري لدستور الأمة الليبية (1951)، وهو الدستور
الأول والوحيد للشعب الليبي الذي تمت صياغته تحت إشراف الأمم المتحدة
كشرط أساسي لمنح البلاد استقلالها عام 1951. فذلك كان الضامن الوحيد
لتحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد سقوط القذافي مباشرة، إلى أن يستتب
الأمن وتعود سيادة القانون لتتوفر للشعب الليبي البيئة السياسية
الملائمة ليقرر شكل الدولة التي يرتضيها بطريقة آمنة ومنظمة
[1].
ولقد كان من اليسير نسبيا دعم قضية تفعيل دستور الشعب خلال الأيام
الأولى للثورة عندما كان الشعور السائد بين الجماهير هو الحنين إلى
العودة إلى ماضي البلاد المستقر، وهو ما تجلّى في رفعهم لعلم الاستقلال
وتردديدهم للنشيد الوطني القديم في مواجهة شعارات القذافي وفي تحدٍ
صريح لرموزه. وقد كان الدافع وراء دعوتنا لضرورة التفعيل الفوري لدستور
1951 هو بالدرجة الأولى إغلاق الباب على المنافسة بين شرائح المجتمع
المتناحرة من أجل استغلال الفراغ السياسي لدسترة مايعتبرونها حقوقهم
المشروعة بالقوة إن اقتضى الأمر.
2-
إن القرار الذي اتخذته الحكومة البريطانية للمساعدة في استصدار قرار من
الأمم المتحدة ولعب دورا رائدا في التدخل لفرض منطقة حظر جوي وحماية
المدنيين في ليبيا كان عملا جدير بالثناء ساعد في حماية الأرواح وأدى
في نهاية المطاف إلى منع حدوث مذبحة حتمية على أيدي قوات القذافي في
شهر مارس 2011.
3-
لم تكن
الفوضى التي تلت سقوط الدكتاتور الليبي مفاجأة على الاطلاق، بل كانت
متوقعة من قبل الاتحاد الدستوري الليبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن
شخصيات مرموقة في المعارضة الليبية في المهجر ممن تبوءوا مناصباً رسمية
بعيد ثورة فبراير 2011 ، وكذلك أعضاء المجلس الانتقالي كانوا جميعا
يصرون على أن خطر الحرب الأهلية لم يكن خطرا حقيقيا
[2].
4-
لقد حذرنا
مرارا وتكرارا وعلى
مدى أكثر من عقدين من الزمن من حتمية نشوب نزاعات مسلحة بين شرائح
مختلفة من مكونات المجتمع الليبي في حال عدم تحصينه بدستور الأمة
[3]. وأعدنا هذه التحذيرات حالما بدأت
ملامح هذا "السيناريو المرعب" تتكشّف إبان الأيام الأولى للثورة
الليبية [4]. وقد كانت تحليلاتنا
الداعمة لتلك التحذيرات متوفرة بسهولة وعلى نطاق واسع على شبكة
الانترنت وعبر موقع أرشيف الاتحاد الدستوري الليبي.
5-
وأودّ هنا التأكيد للجنتكم بأنني لا أدّعي الحكمة بعد وقوع الحدث.
فالفوضى التي تسود ليبيا اليوم كانت مؤكدة بالنسبة لنا، ومسؤولو
الحكومة البريطانية كانوا على علم بتحذيراتنا. وفي المراحل الحاسمة
قبيل الإعلان عن الكارثة المسماة "الإعلان الدستوري المؤقت"، كان
القادة الليبيون ينصتون إلى الحكومة البريطانية، وكان بالإمكان اقناعهم
بتبنّي دستور الأمة لتجنّب ويلات فترة الفراغ السياسي. ولكن ذلك لم
يحدث!
6-
إن حُجتنا نابعة من صميم درايتنا العميقة بخلفية المجتمع الليبي ومن
إحساسنا الخالي من التحيّز بتاريخه، والتي لا تقود إلا إلى نتيجة واحدة
–مؤكدة- مفادها أن التركيبة الاجتماعية للأمة الليبية وتاريخها يجعلا
الصراعات المسلحة بين شرائحها (ومناطقها) المختلفة نتيجة حتمية في حال
عدم سدّ الفراغ السياسي الناجم عن سقوط الطاغية السابق بالتفعيل الفوري
لدستور 1951. وكمثال للتدليل على هذه الاستنتاجات فإن وثائق الأرشيف
الوطني البريطاني تسجل حادثة محدّدة وقعت في الفترة التي تلت الاستقلال
مباشرة عندما أدّى التنافس على فرص العمل في معسكر الجيش البريطاني
بطبرق سنة 1955 إلى اشتباكات قبلية استعمل فيها "الديناميت والبنادق
والفؤوس والعصي الغليظة"
كادت أن تتحول إلى أزمة كبيرة لولا تدخل البوليس الحربي البريطاني إلى
جانب قوة دفاع برقة للفصل بين المتقاتلين وإجبارهم على الهدوء وضبط
النفس. ويمكن العودة الى التفاصيل الكاملة لتلك الحادثة في أحد مقالاتي
في هذا الشأن بعنوان "من يطوق النزاعات الأهلية في ليبيا إذا ما نشبت
واستفحلت ؟
والمنشور بصحيفة
"الحيــاة" اللندنية بتاريخ 3 أغسطس 1994
[5].
7-
لقد دمّر القذافي، تدريجيا، جميع البُنى التحتية الإدارية والقانونية
ذات المصداقية للدولة الليبية، وحكم البلاد بقبضة حديدية ونظام حكم شاذ
من صنعه بدلا عنها، فكانت النتيجة خلق أجيالا كاملة لم تذق طعم الحياة
في مجتمع منظم يدار وفقا للأنظمة التقليدية المنضبطة بقوة القانون
والخاضعة للنظام والمساءلة.
8-
نحن نعتقد أن التحليل الاستراتيجي الذي سبق تدخّل بريطانيا وحلفاؤها
بشأن أثار هذا التدخل وتبعاته، وكذلك بشأن فعالية التخطيط لما بعد
الصراع، قد أخفق تماما في الأخذ بالإعتبار النقطتين التاليتين:
-
التكوين الاجتماعي للأمة الليبية بحساسياته ومكامن ضعفه.
-
مدى الضرر المتعمد الذي ألحقه القذافي بالنسيج الاجتماعي للأمة
الليبية بلعبه - بمنتهى الخبث والفاعلية- على الخصومات القديمة
والعداوات التاريخية بين مكونات الأمة الليبية من أجل ضمان تفوقه في
حكم البلاد بطريقته الشاذة بلا منازع، وتأمين بقاءه في الحكم لفترة
طويلة. وقد كنا نراقب ذلك المخطط الشرير عن كثب ونقوم بكشفه على
الملأ على مدى سنوات عديدة من معارضتنا للقذافي من موقعنا في
بريطانيا.
إنه لمن المحيّر حقاً أن هذه التحليلات الأساسية لم تؤخذ في الاعتبار
حتى عندما بدأت بوادر الفتنة تظهر خلال الأيام الأولى للثورة سنة 2011.
كما أود أيضا التعبير عن مخاوفي من أن الوضع سيزداد سوءً لأن الأسباب
الأساسية للفوضى الحالية وانهيار الدولة لم يتم تعريفها كما ينبغي ولا
التعامل معها بالشكل الصحيح.
September 2015 |